فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وضمير {ولهم عذاب أليم} عائد إلى {الذين من قبلهم} أي زيادة على ما ذاقوه من عذاب الدنيا بالجلاء وما فيه من مشقة على الأنفس والأجساد لهم عذاب أليم في الآخرة على الكفر.
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قال لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قال إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)}
هذا مثل آخر لمُمَثَّل آخر، وليس مثلًا منْضمًّا إلى المثل الذي قبله لأنه لو كان ذلك لكان معطوفًا عليه بالواو، أو بـ (أو) كقوله تعالى: {أو كصيّب من السماء} [البقرة: 19].
والوجه: أن هذا المثل متصل بقوله: {ولهم عذاب أليم} [الحشر: 15] كما يفصح عنه قوله في آخره: {فكان عاقبتهما أنهما في النار} الآية، أي مثلهم في تسبيبهم لأنفسهم عذاب الآخرة كمثل الشيطان إذ يوسوس للإنسان بأن يكفر ثم يتركه ويتبرأ منه فلا ينتفع أحدهما بصاحبه ويقعان معًا في النار.
فجملة {كمثل الشيطان} حال من ضمير {ولهم عذاب أليم} [الحشر: 15] أي في الآخرة.
والتعريف في {الشيطان} تعريف الجنس وكذلك تعريف (الإنسان).
والمراد به الإنسان الكافر.
ولم تُرد في الآخرة حادثة معيَّنة من وسوسة الشيطان لإِنسان معيَّن في الدنيا، وكيف يكون ذلك والله تعالى يقول: {فلمّا كَفَرَ قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين}، وهل يتكلم الشيطان مع الناس في الدنيا فإن ظاهرة قوله: {قال إني بريء منك} أنه يقوله للإِنسان، وإما احتمال أن يقوله في نفسه فهو احتمال بعيد.
فالحق: أن قول الشيطان هذا هو ما في آية {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل} في سورة [إبراهيم: 22].
وقد حكى ابن عباس وغيرهما من السلف في هذه الآية قصة راهب بحكاية مختلفة جعلت كأنها المراد من الإنسان في هذه الآية.
ذكرها ابن جرير والقرطبي وضَعَّف ابن عطية أسانيدها فلئن كانوا ذكروا القصة فإنما أرادوا أنها تصلح مثالًا لما يقع من الشيطان للإِنسان كما مال إليه ابنُ كثير.
فالمعنى: إذ قال للإِنسان في الدنيا: اكفر، فلما كفر ووا في القيامة على الكفر قال الشيطان يوم القيامة: {إني بريء منك}، أي قال كل شيطان لقرينه من الإِنس: {إنّي بريء منك} طمعًا في أن يكون ذلك منجيه من العذاب.
ففي الآية إيجاز حذف حُذف فيها معطوفات مقدرة بعد شرط (لَمَّا) هي داخلة في الشرط إذ التقدير: فلما كفر واستمر على الكفر وجاء يوم الحشر واعتذر بأن الشيطان أضله قال الشيطان: {إني بريء منك} إلخ.
وهذه المقدرات مأخوذة من آيات أخرى مثل آية سورة إبراهيم وآية سورة [ق: 27].
{قال قرينه ربّنا ما أطغيته} الآية.
وظاهر أن هذه المحاجة لا تقع إلا في يوم الجزاء وبعد موت الكافر على الكفر دون من أسلموا.
وقول: {فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها} من تمام المثل.
أي كان عاقبة الممثل بهما خسرانهما معًا.
وكذلك تكون عاقبة الفريقين الممثلين أنهما خائبان فيما دبّرا وكادا للمسلمين.
وجملة {وذلك جزاء الظالمين} تذييل، والإِشارة إلى ما يدل عليه {فكان عاقبتهما أنهما في النار} من معنى، فكانت عاقبتهما سوأى والعاقبة السّوأى جزاء جميع الظّالمين المعتدين على الله والمسلمين، فكما كانت عاقبة الكافر وشيطانه عاقبة سوء كذلك تكون عاقبة الممثلين بهما وقد اشتركا في ظلم أهل الخير والهدى. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقولونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت، وقوم من منافقي الأنصار كانوا بعثوا إلى بني النضير وقالوا لهم، أثبتوا في معاقلكم فإنا معكم حيثما تقلبت حالكم، وإنما أرادوا بذلك أن تقوى نفوسهم عسى أن يثبتوا حتى لا يقدر محمد عليهم فيتم لهم مرادهم وكانوا كذبة فيما قالوا من ذلك، ولذلك لم يخرجوا حين أخرج بني النضير بل قعدوا في ديارهم.
وقوله عز وجل: {لئن نصروهم} معناه: ولئن حاولوا ذلك فإنهم ينهزمون، ثم لا ينصر الله تعالى منهم أحدًا، وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله: {لا يخرجون} و: {لا ينصرونهم} لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط، وفي هذا نظر، ثم خاطب تعالى أمة محمد مخبرًا أن اليهود والمنافقين أشد خوفًا من المؤمنين منهم من الله تعالى، لأنهم يتوقعون عاجل الشر من المؤمنين، لا يؤمنون بآجل العذاب من الله تعالى وذلك لقلة فهمهم بالأمور وفقهم بالحق.
{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ}
الضمير في قوله تعالى: {لا يقاتلونكم} لبني النضير وجميع اليهود، وهذا قول جماعة المفسرين، ويحتمل أن يريد بذلك: اليهود والمنافقين، لأن دخول المنافقين في قوله تعالى: {بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى} متمكن بين. ومعنى الآية: {لا يقاتلونكم} في جيش مفحص، والقرى المدن. قال الفراء هذا جمع شاذ. قال الزجاج: ما في القرآن فليس بشاذ وهو مثل ضيعة وضيع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وكثير من المكيين {جدار} على معنى الجنس. وقرأ كثير من المكيين وهارون عن ابن كثير: {جَدْر} بفتح الجيم وسكون الدال ومعناه أصل بنيان كالسور ونحوه، وقرأ الباقون من القراء {جُدُر} بضم الجيم والدال وهو جمع جدار، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوة: {جُدْر} بضم الجيم وسكون الدال وهو تخفيف في جمع جدار، ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المضايقة، وقوله تعالى: {بأسهم بينهم شديد} أي في عائلتهم وأحبتهم، وفي قراءة عبد الله بن مسعود {تحسبهم جميعًا وفي قلوبهم أشتات}، وهذه حال الجماعات المتخاذلة وهي المغلوبة أبدًا فيما يحاول، واللفظة مأخوذة من الشتات وهو التفرق ونحوه، وقوله تعالى: {كمثل الذين من قبلهم} معناه مثلهم {كمثل}، و{الذين من قبلهم}، قال ابن عباس: هم بنو قينقاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير وكانوا مثلًا لهم، وقال قتادة ومجاهد: {الذين من قبلهم} أهل بدر الكفار فإنهم قبلهم ومثل لهم في أن غلبوا وقهروا، وقال بعض المتأولين: الضمير في قوله: {قبلهم} للمنافقين، و{الذين من قبلهم} هم منافقو الأمم المتقدمة وذلك أنهم غلبوا ونالتهم الذلة على وجه الدهر فهم مثل لهؤلاء، ولكن قوله: {قريبًا} إما أن يكون في زمن موسى وإلا فالتأويل المذكور يضعف، إلا أن تجعل {قريبًا} ظرفًا للذوق، فيكون التقدير {ذاقوا وبال أمرهم} {قريبًا} من عصيانهم وبحدثانه، ولا يكون المعنى أن المثل قريب في الزمن من الممثل له، وعلى كل تأويل ف {قريبًا} ظرف أو نعت لظرف والوبال: الشدة والمكروه وعاقبة السوء، و{العذاب الأليم}: هو في الآخرة، وقوله تعالى: {كمثل الشيطان} معناه مثل هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير {كمثل الشيطان} والإنسان، فالمنافقون مثلهم الشيطان وبنو النضير مثلهم الإنسان، وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن {الشيطان} و(الإنسان) في هذه الآية أسماء جنس لأن العرف أن يعمل هذا شياطين بناس كما يغوي الشيطان الإنسان ثم يفر منه بعد أن يورطه، كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحرضوهم على الثبوت ووعدوهم النصر، فلما نشب بنو النضير وكشفوا عن وجوههم تركهم المنافقون في أسوأ حال، وذهب قوم من رواة القصص أن هذا شيطان مخصوص مع عابد من العباد مخصوص، وذكر الزجاج أن اسمه برصيص، قالوا إنه استودع امرأة وقيل سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون فسول له الشيطان الوقوع عليها فحملت، فخشي الفضيحة، فسول له قتلها ودفنها، ففعل ثم شهره، فلما استخرجت المرأة وحمل العابد شر حمل وهو قد قال: إنها قد ماتت فقمت عليها ودفنتها، فلما وجدت مقتولة علموا كذبه فتعرض له الشيطان فقال له: اكفر واسجد لي وأنجيك، ففعل وتركه عند ذلك.
وقال: {إني بريء منك}، وهذا كله حديث ضعيف، والتأويل الأول هو وجه الكلام وقول الشيطان: {إني أخاف الله}، رياء من قوله وليست على ذلك عقيدته، ولا يعرف الله حق معرفته ولا يحجزه خوفه عن سوء يوقع فيه ابن آدم من أول إلا آخر، وقوله تعالى: {فكان عاقبتهما} الآية، يحتمل الضمير أن يعود على المخصوصين المذكورين، ويحتمل أن يعود على اسمي الجنس أي هذا هو عاقبة كل شيطان وإنسان يكون أمرهما هكذا، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: {عاقبتُهما} بالرفع، وقرأ جمهور الناس: {عاقبتَهما} بالنصب وموضع أن يخالف إعراب المعاقبة في القراءتين إن شاء الله تعالى، وقرأ الأعمش وابن مسعود: {خالدان} بالرفع على أنه خبر {أن}، والظرف ملغى، ويلحق هذه الآية من الاعتراض إلغاء الظرف مرتين قاله الفراء، وذلك جائز عند سيبويه على التأكيد. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا}
حكايةٌ لِمَا جَرَى بينَ الكفرةِ والمنافقينَ من الأقوالِ الكاذبةِ والأحوالِ الفاسدةِ، وتعجيبٌ منها بعد حكايةِ محاسنِ أحوالِ المؤمنينَ وأقوالِهِم على اختلافِ طبقاتِهِمْ. والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أو لكلِّ أحدٍ ممن له حظٌ من الخطابِ. وقولهِ تعالى: {يَقولونَ} إلخ استئنافٌ لبيانِ المتعجَّبِ منهُ. وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على استمرارِ قولهِم أو لاستحضارِ صورتِهِ. واللامُ في قولهِ تعالى: {لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} للتبليغِ. والمرادُ بأخوَّتِهِم إما توافُقُهُم في الكفرِ أو صداقَتُهُم وموالاتُهُمْ. واللامُ في قولهِ تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} أي من ديارِكُم قَسْرًا واللام موطئةٌ للقسمِ. وقولهُ تعالى: {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} جوابُ القسمِ، أيْ والله لئِنْ أُخْرجتُم لنخرجنَّ معكم ألبتةَ ونذهبنَّ في صُحْبَتكم أينما ذهبتُم {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ} أيْ في شأنِكُمْ {أَحَدًا} يمنعنا منَ الخروجِ معكُم {أَبَدًا} وإنْ طالَ الزمانُ، وقيلَ لا نطيعُ في قتالِكُم أو خذلانِكُم وليسَ بذاكَ لأن تقديرَ القتالِ مترقبٌ بعد ولأن وعدَهُم لهم على ذلك التقديرِ ليسَ مجردَ عدمِ طاعتِهِم لمن يدعُوهُم إلى قتالهِم بل نصرتَهُم عليهِ كما ينطقُ به قولهُ تعالى: {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} أي لنعاونَنَّكُم على عدوِّكم على أن دعوتَهُم إلى خذلانِ اليهودِ مما لا يمكنُ صدورُهُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمينَ حتى يدَّعوا عدمَ طاعتِهِم فيها ضرورةَ أنَّها لو كانَتْ لكانَتْ عند استعدادِهِم لنصرتِهِم وإظهارِ كفرِهِم ولا ريبَ في أنَّ ما يفعله عليه الصلاةُ والسلام عند ذلكَ قتلَهُم لا دعوَتَهُم إلى تركِ نصرتِهِم، وأما الخروجُ معهم فليسَ بهذه المرتبةِ من إظهارِ الكفرِ لجوازِ أن يدَّعوا أن خروجَهُم معهم لما بينَهُم من الصداقةِ الدنيويةِ لا للموافقةِ في الدينِ {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في مواعيدِهِم المؤكدةِ بالأيمانِ الفاجرةِ. وقوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} إلخ تكذيبٌ لهم في كلِّ واحدٍ من أقوالِهِم على التفصيلِ بعدَ تكذيبِهِم في الكُلِّ على الإجمالِ {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ} وكانَ الأمرُ كذلك فإنَّ ابْنَ أُبيّ وأصحابَهُ أرسلُوا إلى بَنِي النضيرِ ذلكَ سرًا ثم أخلفُوهُم وفيه حجةٌ بينةٌ لصحةِ النبوة وإعجازِ القرآن.
{وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} على الفرضِ والتقديرِ {لَيُوَلُّنَّ الأدبار} فرارًا {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} أي المنافقونَ بعد ذلكَ، أي يهلكهم الله ولا ينفَعُهُم نفاقُهُم لظهورِ كفرِهِم أو ليَهْزُمَنَّ اليهودُ ثم لا ينفعُهُم نصرةُ المنافقينَ.
{لاَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً} أي أشدُّ مرهوبيةً على أنها مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ {في صُدُورِهِمْ مّنَ الله} أي رهبتُهُم منكُم في السرِّ أشدُّ مما يظهرونَهُ لكم من رهبةِ الله فإنهم كانُوا يدَّعونَ عندَهُم رهبةً عظيمةً من الله تعالى: {ذلك} أي ما ذُكِرَ من كونِ رهبتِهِم منكُم أشدَّ من رهبةِ الله {بِأَنَّهُمْ} بسببِ أنَّهُم {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أيْ شيئًا حتى يعلمُوا عظمةَ الله تعالى فيخشَوه حقَّ خشيتِهِ.